الشيخ أحمد بمب والقرآن الكريم

 

 

الشيخ أحمد بمب والقرآن الكريم

في شهر رمضان المبارك  يُعنى كثير من المسلمين بالقرآن الكريم تلاوة وتجويدا وتفسيرا، وفي هذه المقالة سوف نستعرض بإيجاز علاقة  الشيخ أحمد بمب خديم الرسول (ص) بهذا الكتاب المجيد ليكون  دافعا لنا لمزيد من الاهتمام به. فقد كان رضي الله عنه متميزا في حرصه على القرآن الكريم حفظا وتلاوة ورسما وجمعا وتكريما ورعاية لأهله وعملا بأحكامه،

: وقد كرس حياته لخدمته واعتبر هذه الخدمة كنزه الذي لا يفنى وميراثه الخالد، يقول

    قراءتُها كَنْزي وجاهي وعِزَّتي            أُنِلْتُ بها كَوني لدى اللهِ ذا صِدْق1

ويقول أيضا:

       بخِدْمــــةِ القرآن والَحــــديث

يثْـــبُــتُ لا بِذَهَبٍ مَـوْروثي2

وكانت علاقته بالقرآن علاقة وطيدة يصعب وصفها بالتفصيل ولكننا، لإبراز جانب من تلك العلاقة ، نكتفي بعرض مقتطفات من كتاباته حول الكتاب المجيد بعد الإشارة إلى مكانته في حياته العملية من خلال بعض تجاربه معه.

القرآن في حياة الشيخ العملية

من المعروف تاريخيا أن أسرة الشيخ الخديم وضي الله عنه كان لها عهد قديم بالقرآن وتاريخ عريق معه، فقد كان أجداده وآباؤه مدرسين للقرآن وللعلوم الشرعية ابتداء من جده محمد الكبير «مهرم امباكي» وصولا إلى والده مام مور أنت سالي امباكي ومرورا بجدته سغن أشت والو امباكي والدة السيدة مام جارة بوسو.

وهكذا هيأ الله للشيخ بيئة تزخر بالحفظة والعلماء، ورزقه حفظ القرآن في سن مبكرة علي أيدي أقاربه، خال أمه ووالده، وقدنسخ بيده عدة مصاحف عن ظهر الغيب.3

ولم تتوقف هنا مسيرته مع الكتاب العزيز، فقد تقلد مهمة تدريسه في حجر والده وتحت إشرافه في امباكي كجور قبل إعلان دعوته الإصلاحية التي عرفت، فيما بعد بالطريقة بالمريدية عام ١٨٨٣.

القرآن في منهج الشيخ الخديم

ولما شرع الشيخ في تربية المريدين الذين لبوا دعوته كانت دراسة القرآن وحفظه ركنا أساسيا في عملية تكوين المريد، كما كان دوام تلاوته جزءا مهما من برنامج تربيته الروحية يقول :

كلٌّ مريدٍ بي يلوذُ فليُدِمْ

تلاوةً لخير ذكرٍ قدْ رُسِمْ4

وقد كان يرتب لمريديه رواتب من القرآن يلازمون قراءتها إلى جانب أذكار وعبادات أخرى.

وقد عهد مهمة تدريس القرآن إلي عدد من كبار مريديه الذين تربوا على يديه وتصدروا، وأبرزهم الشيخ عبد الرحمن لوح5، الأمر الذي ساهم في تغيير نظرة الناس إلى مدرس القرآن الكريم وموقفهم منه.

وأصبح لدراسة القرآن لون مختلف وبعد آخر في عهده، بفضل تكريمه لأهل القرآن وتبجيله لهم وإغداقه عليهم بالأموال الطائلة. فقد تنافس أبناء المريدين في حفظ القرآن وكتابة المصاحف وتقديمها إليه.

وكانت للشيخ رضي الله عنه مجموعات من القراء والكتبة وظيقتها ختم القرأن عدة مرات كل يومي وكتابة المصاحف. يقول الشيخ محمد الأمين جوب صاحب إرواء النديم في وصف أحواله في دار المنان بعيد عودته من منفاه بغابون ” وبقي على حاله وتربيته وأمره وجماعته فوق ما كان بأضعاف مضاعفة؛ والمصاحف تقرأ في النهار بالنظر وفي الليل عن ظهر غيب… “6.ويحكي صاحب الإرواء أيضا طرفا من شأن الشيخ مع القرآن في جربل “وصارت القرية [ جربل] أعمر قرية بمساجدها ومدارسها القرآنية والعلمية. ومصحف الشيخ يختم في باب داره كل يوم أربع مرات، مرتين بعد الصبح ومرة بعد الظهر ومرة بعد العصر، وفي ليلة الجمعة سبع مرات ( …) وأما الاستكتابات فكل حافظ كاتب ـ أي حسن الخط ـ لا يخلو من مصحف مستقل “

وأما تبجيل الشيخ وتكريمه للمصحف الشريف فقد كان حديث الركبان، فقلما كان يتسلم بيديه هدية سوى مصحف يقدم إليه، حيث كان يقبله ويضعه فوق فرش مهيئة، يرش عليها أطيب أنواع العطور. وكان ينفق أموالا طائلة في تصنيع أغلفة جلدية فاخرة للمصاحف.

وبفضل توجيهات الشيخ وتعاليمه، شهد موقف العامة تجاه دراسة القرآن وحفظه نقلة نوعية كبيرة؛ فقد كان السواد الأعظم من دارسي القرآن، قبل انتشار دعوته، يسعون وراء أغراض دنيوية بحتة كالحظوة بمكانة اجتماعية مرموقة وجني الأموال، الأمر الذي كان يؤدي إلى ممارسات غريبة واستعراضات يشوبها التغنى والتلاعب بالقرآن في محافل عامة!

ولكن هذا التعامل الفريد من نوعه مع القرآن من قبل الشيخ الخديم والذي له انعكاس طيب على موقف مسلمي عصره تجاه الكتاب العزيز ليس إلا ترجمة حية لنظرته إلى هذا الكتاب العزيز وتطبيقا عمليا لتعاليمه التي تناثرت في ثنايا قصائده تجاهه.

القرآن في كتابات الشيخ الخديم

(رضي الله عنه):

يمثل القرآن الكريم أحد المحاور الأساسية التي كانت كتابات الشيخ الخديم في أغلبها تدور حولها وهي : الخالق سبحانه ونبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه وكتابه المجيد. ومن هنا كان القرآن الكريم يحتل مساحة مهمة وحيزا كبيرا في كتاباته7

و يستحيل علينا، في سياق هذه المقالة، حصر جميع ما كتبه الشيخ حول القرآن، ولكنه، يمكن من خلال بعض العينات من أبياته أن نتعرف على بعض الأوجه التي ركز الشيخ عليها، ومنها علاقته الخاصة به وموقفه منه وكيفية التعامل معه.

ذكر علاقته الخاصة بالقرآن وموقفه منه

إن علاقة الشيخ بالقرآن، وإن كانت بحرا لا يدرك أعماقه أو يحيط بسواحله عقل بشر إلا أن في كتاباته إشارات إلى بعض الجوانب التي تبلورت فيها هذه العلاقة ومنها:

- معاهدته مع الله على التمسك بالقرآن بعد ما تبين له بشكل يقيني أن الصواب هو الاعتصام بالقرآن والسنة

أُعاهدُ اَلله على أخذِ الكتــــــاب

بخدمةٍ للمصطفى بابِ الصواب8

ظهرَ لي أنَّ اعتصاماً بالكتابْ

وبحديثِ المصطفى هو الصوابْ9

وجَّهْتُ وجهي للعليم بالكتـــاب

ذا عصمة مما يُـؤدي للـــعتاب10

- جعله القرآن ورده وأنسه في الوحشة ودليله في الغربة
  جعلتُ كتابَ اللهِ ورْدي وأَبتغي            بترتيله ما شئتُ إذْ صار لي أبَّا
11

 

 

- قيادة الناس بالقرآن إلى ربهم وهداية أصحابه به
  قرآنُ ربي لا أبغي به بــــــدلا                        به أقود إلى رب الورى العلما
12

 

 

 

 

به زال غمِّي حين أمسكتُهُ هُدًى

سأَهدي به نفسي وأهدي به الصحبا13

 

 

 

منهج التعامل مع القرآن عند الشيخ14

عقد الشيخ في كتابه مسالك الجنان بين فيه العديد من أحكام تتعلق بالتعامل مع الكتاب العزيز؛ وجه فيه الشيخ القارئ إلى مداومة تلاوة القرآن ثم فنّد مزاعم بعض المتصوفة الذين يدعون أن ما هم فيه أعظم من تلاوة القرآن، فقال :

                       أدم تلاوة لذا الـكتـــــــــــاب                 ولوثلاثـــــةً من الأحزاب

                        في كل يوم دون هجران كما               طلبة العلم له ذوو انتمـآ

                        وبعض من تصوفوا وزعموا                بأن ما هم فيه منه أعظم

                         وذلك الدليل زور وكــذب                     قد غرهم إبليس فيه فاقترب

ثم بين ضرورة الاقتداء بالسلف الصالح في تدبر معاني القرآن واستنباط احكامه ودقائق علومه والعمل بمضمونه مع اجتناب كل وصف ذمه الله تعالى والاتصاف بكل صفة مدحها

                       لا تهجرنه وتله مؤبـــــــــــدا                  واستنبطن ما شئت منه أبدا

                       من العلوم مثل صالح السلف                إذ كلهم من لج بحره غرف

وقد تعرض لمسائل عديدة في هذا الفصل كتدريس القرآن مقابل أجر والأفضلية بين الإسرار والإجهار بتلاوة القران وغير ذلك .

الشيخ الخديم وتفسير القرآن

كان الشيخ رضي الله عنه يهتم بعلم التفسير، ويعده من أشرف العلوم، يلي علم التوحيد في المرتبة، يقول في “مسالك الجنان“:

وأفضل العلوم بالإطلاق

توحيد ربنا على اتفـــاق

وبعده التفسير للقرآن

ثم الحديث قاله الديماني15

وقد نبه في هذه المنظومة إلى أهمية فهم آيات القرآن وتدبُّر معانيه حيث يقول:

                وأفضل الذكر كتاب اللــه           مع التدبُّر والانتبــــــــــــــــــــاه

                وآية واحدة تُدُبِّــــــــــرتْ            فيها تفوق ختمة منه خلـــــــت

وكان يُعنى بدراسة علم التفسير واقتناء كتبه كل العناية، ويشهد لذلك أنه منذ بضع سنوات عُثر على نسخة من تفسير “الجلالين” كتب النصف الأول بخط يده، وكتب مريده الشيخ امباكي بوسو النصف الآخر.

وقد ظهرت هذه العناية أيضا لدى أتباعه، حيث نجد أن أحد تلاميذه الكبار – الشيخ محمد دم – قام بتفسير القرآن كاملا باللغة المحلية الولفية على غرار تفسير الجلالين وسماه “مورد الظمآن في تفسير القرآن”.

والشيخ بنفسه فسَّر بعضا من آيات القرآن في مواضع متفرقة

ومع هذا، قد اشتهرت روايات مفادها أن الشيخ كان يمنع أتباعه من تفسير القرآن؛ فتردد بعض الباحثين في قبول هذه الروايات استنادا إلى ما سبق ذكره من اهتمام الشيخ بالتفسير.

ولكن، بقليل من التأمل و التمعن، يمكن أن نقول بأن الشيخ لم يكن يمنع دراسة علم التفسير الذي يعتبر مفتاحا للاستفادة من تعاليم القرآن وتوجيهاته وفيوضاته وأسراره، ولكن منعه كان ينصب على عادة كانت منتشرة في البلاد، تتمثل في مباشرة تفسير القرآن في المساجد والمنتديات رأسا دون توفر الشروط والمؤهلات اللازمة لذلك، وهو أمر قد يودي إلى خطر التقول في القرآن بالرأي المجرد أو بالهوى.

ولم يكن الشيخ في منعه وتحذيره من هذا النوع من التفسير بدعا، فقد روي عن عدد من الصحابة والتابعين تحذيرهم وتهيبهم من الكلام في القرآن بالرأي المجرد أو بما لا علم لهم فيه16.

 

نموذج من تفسير الشيخ لبعض الآيات

ومن كلامه في تفسير قوله تبارك وتعالى ( فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

(فمن اتقى) أي الكفر والفسوق والشرك والحرام والمكروه واللغو ( وأصلح) أي الإيمان والإسلام والإحسان والواجب والمندوب والمباح الصالح (فلا خوف عليهم) أي في الدنيا ( ولا هم يحزنون) أي في الآخرة

 

ويقول صاحب المنن الشيخ محمد البشير في وصف الشيخ « فهو، رضي الله عنه، آية في الحفظ والإتقان، أمّا القرآن والحديث فهو وعاؤهما وخزينة أسرارهما ومنبع علومهما إتقانا وتفسيرا، يفيض بأنواع العلوم والغوا مض على المستمعين منهما».17

 

الخاتمة

هكذا نجد أن اهتمام الشيخ الخديم رضي الله عنه وعلاقته بالقرآن الكريم تبلورا من خلال ممارساته العملية وكتاباته. وبفضل موقفه هذا، عنيت الطريقة المريدية مند عهدها الأول بخدمة القرآن عملا بتوجيهاته وتعاليمه. وانشرت نتيجة لذلك المعاهد القرآنية التي يشرف عليها شيوخ الطريقة وأبناؤها في القرى والمدن على حد سواء، ويتخرج منها سنويا مئات من الحفظة